فصل: التكرار في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.التكرار في القرآن:

74 - كانت السور منها القصار ومنها الطوال، وإنَّ الجميع بترتيب من الوحي الإلهي، ولم يكن من عمل النبي صلى الله عليه وسلم من غير وحي، بل هو من توقيف الله تعالى ووحيه، وإنَّ وضع الآيات بعضها بجوار بعض من وحي الله تعالى؛ إذ كانت الآية إذا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضعها في مكانها من السورة التي يعينها بالوحي النازل عليه، والذي كان لا يني عن الاتصال به فيما يتعلق بالقرآن الكريم. وإن ذلك من الإعجاز؛ إذ إنَّ الآيتين المتلاصقتين مع أنهما قد تكونان نزلتا في زمنين متباعدين، نجد أن كل واحدة لقف للأخرى، هما صنوان متلازمتان متآخيتان، وذلك من سرِّ الإعجاز ودلائله؛ إذ إنَّ التناسق البياني بينهما متصل، والمعاني متلاقية، وكل واحدة منها تتم الأخرى في الموضوع في أحيان كثيرة، وفي التوجيه النفسي والتوالد المعنوي بينهما؛ بحيث لا يتصور القارئ للقرآن الكريم، أو المستمع لترتيله والمدرك لنغمه؛ لا يحسب أن بينهما فارقًا زمنيًّا في النزول.
وبجوار طول السور وقصرها، مع الإعجاز في كلها، قد نجد في القرآن تكرارًا، وهو من تصريف البيان، لا من الإطناب المجرَّد، إنما هو لمقاصد ولتوجيه النظر، ومناسبة المقام، ولقد لاحظ ذلك الأقدمون الذين تكلموا في سر الإعجاز، وقد قال في ذلك الجاحظ في كتابه الحيوان:
ورأينا الله - تبارك وتعالى - إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطًا وزاد في الكلام.
وإنَّا نقدِّر كلام الجاحظ حق قدره، وإن ذلك واضح في كثير من آي القرآن، وإن الأعراب الذين يعتمدون على ذاكرتهم؛ لأنهم أميون يناسبهم الكلام الموجز، وأحيانًا يغني فيهم لمح القول ولحنه وإشارته، ولكن نلاحظ ثلاثة أمور:
أولها: إنه قال: وزاد في الكلام، وإنَّا لا نحسب أنَّ هذه الكلمة تتفق مع بلاغة القرآن ولا مقامه، فليس في القرآن زائد، وإن أطنب في القول؛ لأن الزيادة تتسم بالحشو، ومحال ذلك في أبلغ القول الذي نزل من عند الله تعالى، ولعله أراد معنى البسط والإطناب لا أصل الزيادة، ولا يمكن أن يكون قد أراد الحشو، ولكن مع كل نقول: هذه العبارة ليست سائغة.
الثاني: إنَّ الآيات المكية وقد كان الخطاب لعبدة الأوثان، فإنَّا نجد فيها بسطًا في القول، وخصوصًا في الاستدلال من الكون على أنَّ الله سبحانه وتعالى - خالقه، وفي الاستدلال بعجزهم، والالتجاء إليه سبحانه.
اقرأ قوله تعالى: {أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 60 - 64].
وإن هذا الكلام الكريم لا يمكن أن يكون خطابًا لليهود وحدهم، وإنما هو خطاب للعرب، ولم يكن باللمح والإشارة، بل كان بالتصريح والعبارة، فلم يكن بالإيجاز، وإن كان الإيجاز القرآني من نوع الإعجاز، بل كان بالإطناب المتَّسِق المبين، وكان فيه بعض التكرار في موضعه؛ لأنه التوجيه إلى النظر فيما تحت أيدهم هو في ذاته مقدمة لنتيجة هي الوحدانية للمعبود، ما دامت وحدانية الخالق قد ثبتت بهذا الكلام، فكان لا بُدَّ أن تذكر النتيجة أمام كل مقدمة؛ لأنها وحدها دليل، ولو لم تذكر النتيجة أمام كل مقدمة لكانت النتيجة ثمرة لمجموعها، مع أنَّ كل واحدة منها صالحة لِأّنْ تكون الوحدانية نتيجة لها، دون أن تنضمَّ معها غيرها.
الملاحظة الثالثة: وهي مبنية على الملاحظة السابقة، أنَّ الإيجاز والإطناب يكون لكل موضعه ومقامه، فلكلِّ مقام مقتضاه الذي توجه أحوال البيان المعجز.
وقد لاحظنا أنَّ مقام الاستدلال على الوحدانية من المواضع التي يحسن فيها الإطناب، وكلام الله تعالى اتجه إلى ذلك كما رأينا في الآية السابقة، وكما نرى في سورة الرحمن، فإنها تذكير بنعم الله تعالى، وكل نعمة كفروا؛ إذ استعملوها في غير موضعها، وفي أمر الله تعالى ونهيه، وإذا كان جزاء النعم كفرًا بالمنعم، وإشراك غيره معه في العبادة، فقد قال تعالى في سورة الرحمن: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ، وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ، فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلى آخر السورة الكريمة.
وهكذا نجد بعد كل نص سام تتبين فيه نعمة الخالق بديع السماوات والأرض يكون تذكير بنعم الله، ووجوب شكرها بالطاعة وتجنب المعصية، والإقرار بوحدانية المعبود، وألَّا يعبدوا غيره سبحانه وتعالى، وفي ذلك إشارة إلى أن كل نعمة من هذه النعم، وبينة من هذه البينات توجب وحدها الشكر، وتوجب الإقرار بوحدانية الله سبحانه وتعالى.

.قصص القرآن من الناحية البيانية:

75 - ومن المواضع التي يحسن فيها الإطناب بل التكرار أحيانًا قصص القرآن، ولا نذكره هنا من ناحية أنَّه من وجوه الإعجاز في ذاته، فلذلك موضع خاص من القول، إنما نذكره من ناحية التكرار فيه، وموضع ذلك من سرِّ الإعجاز وبلاغة القرآن التي لا تساميها بلاغة في الوجود، وإنَّ ذلك التكرار من تصريف القول الذي هو وجه من وجوه البيان القرآني الذي قصد إليه الكتاب العزيز.
لقد تكرَّرت قصص الأنبياء، فذكرت قصة نوح عدة مرات بالإطناب أحيانًا، والإيجاز أحيانًا، وذكرت عيسى عدة مرات، وذكرت قصة إبراهيم عدة مرات، وذكرت قصة موسى عدة مرات، وإنه يبدو بادي الرأي أنَّ ذلك من مكرور العقول، وفيه التكرار، فما وجه البلاغة في هذا التكرار؟
إننا إذا نظرنا نظرة فاحصة تليق بمقام القرآن ومكانته في البيان العربي، نجد أن التكرار فيه له مغزى؛ ذلك أنَّ القرآن ليس بكتاب قصص، وليس كالروايات القصصية التي تذكر الحوادث المتخيلة أو الواقعة.
إنما قصص القرآن وهو قصص لأمور واقعة يساق للعبر وإعطاء المثلات، وبيان مكان الضالين ومنزلة المهتدين، وعاقبة الضلال وعاقبة الهداية، وبيان ما يقاوم به النبيون، ووراءهم كل الدعاة للحق، فهو قصص للعبرة بين الواقعات، لا لمجرد المتعة من الاستماع والقراءة، ولذلك قال الله تعالى في آخر قصة نبي الله يوسف عليه السلام: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
ولكي يتبين للقارئ الكريم أنَّ التكرار بتسبب تعدد العبر التي هي المقصد الأول من القصص، نذكر قصة إبراهيم وقصة موسى - عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، فإنهما ذكرتا كثيرًا في القرآن الكريم.
قصة إبراهيم:
76 - ذكرت قصة إبراهيم في القرآن عدة مرات؛ لتعدُّد العبر فيها، وإنَّ إبراهيم كان أبا العرب، فقصصه له مقامه عند العرب، ونذكر من قصة بعضه لا كله، فإنه ليس هذا مقام ذكره في القرآن.
أ - أول ما نذكر من قصة إبراهيم هو ما يربطه بالعرب، وما كان شرف العرب به بناء الكعبة، فقد ذكر هذا البناء الذي قام به، وعاونه فيه ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وبإبراهيم وإسماعيل تشرَّف العرب بأنهم سلالتهما، وبالبيت الحرام اعتزوا، وعلوا في العرب؛ إذ كان مثابة للناس وأمنًا، وقد قال تعالى في هذا البناء الذي قام بأمر رباني:
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 124 - 128].
ثم بَيِّنَ سبحانه وتعالى - من بعد ذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان استجابة لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبذلك تتبين الصلة بين الإسلام ودعوة إبراهيم، فإذا كان العرب يفتخرون بإبراهيم عليه السلام، فهذه دعوته قد استجيبت في محمد صلى الله عليه وسلم.
ب - نجد بعد هذه القصة قصة النفس البشرية في نبيّ الفطرة إبراهيم عليه السلام؛ إذ النفوس ولو كانت مؤمنة تتمتع بكثرة الدليل؛ لتزداد إيمانًا، وإن كان أصل الإيمان قائمًا، فزيادة البينات تزيد المؤمن إيمانًا، وتزيد الجاحد كفرًا وعنادًا.
واقرأ قصة طلبه زيادة الإيمان: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].
ومن قبل ذلك في الذكر كانت قصته مع الملك عندما ناقشه في إثبات وجود الله وكيف استطاع إبراهيم عليه السلام أن يفحمه؛ إذ هو لا يؤمن إلَّا بالمحسوس؛ إذ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
وترى في قصة إبراهيم والطير أنَّه صوَّر النفس الإنسانية، ولو كانت نفس نبي مؤمن يدعو إلى تكشّف المجهول، وتعرُّف المستور، والمؤمنون يهديهم الله تعالى، ومن لا يريدون الهداية يتركون في غيهم يعمهون.
وفي قصة إبراهيم مع الملك نجد إبراهيم الأريب يأخذ بالطريق الذي يحسم الخلاف دون الطريق الذي يحدث لجاجة من غير إفحام؛ إذ الملك فهم أن القتل إماتة وتركه إحياء، فلم يسترسل رسول الله الفطن الأريب في تعريف للموت والحياة، بل عمد إلى ما يفحمه حسيًّا، فبهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين.
ومن هذا نرى أنَّه ليس ثمَّة تكرار في المعاني والعبر والعظات، وإن كان الموضوع في الأحوال الثلاث يتعلق بإبراهيم عليه السلام.
ج - ولننتقل إلى قصة أخرى موضعها يتعلق أيضًا بإبراهيم عليه السلام، وهو تدرُّج النفس الإنسانية في الاتجاه إلى طلب الحقيقة الإلهية، والإيمان بالوحدانية. كيف ابتدأ إبراهيم عليه السلام تأمله في الكون؛ ليتعرَّف من الوجود سر الوجود، وعظمة الخالق، فأوَّل ما استرعاه نجم ساطع تألَّق فحسبه ربه، ولكنَّ الرب موجود دائمًا، فلمَّا غاب نفر مما زعم، ثم رأى القمر فحسبه كذلك، ثم رأى الشمس، وهكذا حتى هدي إلى أن سرَّ الوجود يجب أن يكون غير هذا كله، فاتجه إلى الله، وإليك القصة كما ذكرها القرآن، وكما وقعت، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْم إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 74 - 80].
ونرى من القصة أنَّها مغايرة تمام المغايرة لما سبق، وإنْ كانت غير معارضة لها، بل هي متمِّمة، ولا تكرار في القصص، إنما الموضوع وهو إبراهيم عليه السلام هو المتكرر، ونرى أنه ابتدأ بنفي عبادة الأصنام على أساس أنَّ البديهة تدعو إلى ذلك، وأنَّ ضلال العقل هو الذي يؤدي إلى عبادتها، ثم أخذ يبين أنَّ طريق اليقين يبتدئ بالشك في صدق ما تضل فيه الأفهام، فأخذ يعرض على عقله ما يتصور أن يكون فيه نفع، فاتَّجَه إلى الكوكب الساري، ثم إلى القمر المنير، ثم إلى الشمس السراج، فوجد أنَّ كل ذلك يأفل، ويجري عليه تغيُّر، فاتَّجَه إلى خالق ذلك كله، ولذلك يقول بعض العلماء، ومنهم ابن حزم الظاهري: إن إدراك الله ضروري إذا استقامت الفطرة، ولم تركس في ضلال الأوهام.
د - انتقل سيدنا الخليل من الاهتداء إلى الله تعالى إلى عمل إيجابي نحو الأصنام، دفعه الشباب ونور الله إلى أن يحطِّمها، وهذا يجيء في قصص القرآن الكريم، فيذكر سبحانه أنَّه عقب أن نال إبراهيم رشده، وهو في حياطة الله، تقدّ ضلال عبادتها، وأنَّها لا تضر ولا تنفع، فحطَّمَها، ويقول سبحانه وتعالى - في ذلك: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (صدق الله العظيم) [الأنبياء: 51 - 70].
هذه قصة من قصص إبراهيم عليه السلام ذكرها القرآن الكريم في موضع غير المواضع السابقة، ولا نرى تكرارًا فيها، وإذا كان قد ذكر في قصة تتبع الكواكب والقمر والشمس الحكم على أبيه وقومه بالضلال، فقد ذكر ذلك مجملًا في الأول، أما هنا فقد ذكر المناقشة التي جرت بينهم في ذلك، ثم ذكر تدبيره في حطم الأصنام، وإثبات عجز الأصنام بالدليل القاطع، ثم نجاته من النار، فكان بهذا مثبتًا بالعمل أنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولما سألوه عمَّا فعل بالأصنام قال متهكمًا: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، فأنطقهم بضلالهم؛ إذ نكسوا ثم قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}، وقد أثبت الواقع أيضًا أنَّ الله وحده هو الذي يضر وينفع؛ إذ جعل سبحانه وتعالى - النار {بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}.
وهنا لا نجد تكرارًا مطلقًا، وإن الموضوع واحد، فهذه قصة إبراهيم، ولكن فرقت في أبواب شتَّى؛ لأن النسق القرآني المعجز اقتضى ذلكح إذ يكون كل جزء مكونًا لقصة ذات عبرة مستقلة في ذاتها، فهي قصة واحدة الموضوع، في قصص متعددة العبر.
هـ - ولندخل إلى جزء آخر من قصة إبراهيم، ونراه مستقلًّا غير مكرَّر، وهو صلة إبراهيم بأبيه، وكيف كان حريصًا عليه مع رفق الدعوة وإحسان البنوة، وطرق الهداية الرشيدة، يقول الله تعالى حكاية عن إبراهيم بعد أن صار صدِّيقًا نبيًّا:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا، قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا، قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 41 - 47].
وهنا نجد رفق الدعوة التي تفيض بحنان البنوة في عباراتها، وفي نغماتها الهادئة، وفي معانيها العاطفة، ولا يمكن أن يوجد في أيِّ لغة في أيِّ كلام عبارات برفق الدعوة والعطف والرعاية بمثل هذه العبارات؛ لأنها كلام العليم الحكيم العزيز الكريم.
وبمقدار ما في عبارات الابن من رفقٍ واسترضاءٍ واستعطاف كانت عبارات الأب كما صوَّرها القرآن جفوة، وكأنَّها الجنادل تصك الآذان، ولم يمنع ذلك الابن العطوف من أن يعد أباه بأن يستغفر له ربه؛ لأنه له مكانة عند الله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}.
ولكن الله تعالى يخبره بأنه ليس له أن يستغفر لأبيه؛ لأن كل امرئ بما كسب رهين، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وكل إنسان وما قدَّمت يداه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وقد نهى الله تعالى عن الاستغفار للمشركين، وعفا عن إبراهيم إذ استغفر لأبيه، ولكنه أمره بالبراءة منه فتبرأ، وقال تعالى في ذلك:
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 113، 114].
هذه قصة إبراهيم عليه السلام، قبضنا منها قبضة؛ لكيلا يتوهَّم القارئ للقرآن، أو المستمع لتلاوته أنَّ فيها معاني مكررة وألفاظًا مرردة، ومنها يتبين أنه لا تكرار قط فيها، ولكن حكمة العليم الخبير تعالت كلماته اقتضت ذكرها متفرقة الأجزاء في مواضع؛ لتكون كل عبرة بجوار خبرها في القصة، ولو اجتمعت في مكان واحد لاختلطت العبرة بالقصة الخبرية، وما تميزت كل عبرة تميزًا يجعلها كونًا مستقلًّا مقصودًا بالذات، وبقية الأجزاء التي لم نرطّب قمنا بذكرها لا تكرار فيها، بل كل واحدة لها عبرتها.